شريط زمني وكتب ومجلات

لا أذكر أول كتاب قرأته بالفعل، لكن أول كتاب أذكر إني قرأته كان كتاب القراءة المدرسي. لكني أذكر حبي للمجلات منذ طفولتي. أذكر أول مرة اقتنى لي والدي مجلة “العربي الصغير”، في ذلك اليوم دخل إلى البيت بوجهٍ بشوشٍ لم يكن هو الافتراضي عنده، ففرحت حينها لاشعوريًا قبل أن أعرف حتى ما هو هذا الشيء الذي أحضره لي.

أغرمت جدًا بالقصص والمحتوى الذي تضمنته المجلة، وأصبحت أنتظرها من شهر لآخر، وطلبت من والدي أن يعلمني كيف أصل إلى “مكتبة الصفاء” بنفسي كي لا أنتظره هو ليحضر المجلة في كل مرة، ووعدته أن أشتري له مجلة “العربي الكبير” بطريقي، فوافق على العرض، وأضاف عليه أنني سأذهب لأشتري له الجرائد اليومية من نفس المكان.. يوميًا لا شهريًا!

أصبحت أقرأ المجلة في يوم واحد، وآخذها ثاني يوم معي إلى المدرسة لأعيد تصفحها مع أصدقائي، أو ربما كنت أستخدمها كأداة جذب وقيمة ليصبح لدي أصدقاء حقيقيين قل ما حصلت عليهم، فكنت المثقف الوحيد في الصف الذي يقرأ مجلات غير مجلة “أسامة” التي تصدرها الدولة، وتبيعها لنا كطلاب بخمس ليرات، بينما كان سعر العربي الصغير 20 ليرة، وقد لفت ذلك نظر المعلمة التي أصبحت تستعير المجلة مني في يوم وتقرأها هي، ومن ثم قررت تطبيق النظام الاشتراكي علي، وقررت أنه يجب علي أن أعير المجلة لكل من في الصف لكي يقرأها لمدة يوم واحد ويعيدها في اليوم التالي، وهذا ما كان يحدث بالفعل.

بعد فترة، تسلطتُ على مكتبة والدي، وذهلت من حجمها المرعب، وكمية الكنوز الموجودة فيها، فيبدو أن والدي يقرأ مجلة العربي منذ أن كان هو نفسه طفلًا، ووجدت في المكتبة أعداد من نهاية الستينات وحتى مطلع الألفينات، واستمر باقتنائها حتى الشهر الأخير قبل وفاته في أيار 2003.

إلى جانب مجلة العربي وجدت لديه الكثير من المكتب والروايات والمسرحيات العالمية، أذكر منها نسخة خاصة بجلد مخملي عليه كتابة مذهبة لروائع أنطون تشيخوف، ومسرحيات لشكسبير، وكتب عن تاريخ سوريا وغيرها الكثير، وهنا بدأت أجلس بالساعات أتصفح أحيانًا وأتأمل الصور، وفي بعض الأحيان كنت أتعمق في بعض هذه الكتب، وأسرقها لأتابع قراءتها في المساء، وآخذها معي إلى المدرسة في اليوم التالي لأُعمّق تميزي الثقافي في الصف.

وبالصدفة لاحقًا أثناء إحدى زياراتي لمكتبة الصفاء، اكتشفت مجلة جديدة تدعى “ماجد” تصدر أسبوعيًا لا شهريًا، فتشجعت وطلبت من والدي عشر ليرات زيادة كي أشتريها، كنت متأكدًا أنه سيوافق على ذلك، مع أني كنت بحاجة إلى واسطة كانت عبارة عن أخي عزت الصغير المدلل في ذلك الوقت كي يطلب منه خمس ليرات نشتري بها بطاطا وبسكويت وعلك، واستمر الوضع على هذا الحال حتى وفاة والدي في 2003 قبل أن أتم أنا عشر سنوات من عمري.

حاولت والدتي بعد ذلك أن تحافظ على هذه الاستمرارية وتزودني بأكثر مما احتاج لشراء المجلات، فكنت أتعرف باستمرار على مجلات جديدة، حتى توقفت المجلات عن الوصول إلى مكتبة الصفاء، أو ربما توقف أبو عبدو المكتبة عن إحضارها لسبب ما، وأضيف إلى ذلك وصول الكمبيوتر الجديد، وانشغالي باكتشافه، ومن ثم بدئي للعمل إلى جانب الدراسة ومشاركة أمي بعض مسؤولياتها كوني “الأخ الأكبر”.

بكل تأكيد استمرت القراءة معي، وكنت أعود لمكتبة أبي باستمرار وابحث فيها عن معلومات وأتعلم منها أساليب كتابة، واكتشفت لاحقًا أني أحب مشاهدة الاعلانات فيها بشكل كبير، وحتى في عملي اليوم في كتابة الاعلانات والمحتوى التسويقي مازلت أستحضر ذلك المخزون من اللغة العربية الجميلة ، التي لم تكن خفيفة سطحية ولم تكن جذلة الألفاظ في نفس الوقت

حتى الآن لم أنتهي من قراءة ربع ما فيها. لن أستطيع العودة إليها لأنها سُرقت بغرض التدفئة من قبل بعض الهمج.

لم أقرأ ألف كتاب، ولا الكثير من الكلاسيكيات، ولا أعتبر نفسي مثقفًا، فقد ارتبطت عندي صورة المثقف بصورة حقيرة لشخص متعالٍ متعجرف شعره طويل ورائحته تبغ وطني رخيص ويرتدي البيريه الحمراء، ويُنّظر على الناس.

فيما بعد، أصبحت أقرأ أشياء متعلقة بالتقنية أكثر، قصص وتجارب وزوايا أخرى لشخصيات ومواضيع تهمني بالفعل، أقرأ عن التصميم والبصريات، عن الموسيقى، عن التسويق، وقرأت عشرات الكتب عن شركة آبل ومايكروسوفت وما وراء الابتكارات التي تعنيني، واطلعت على حيوات ومشاهد لطالما تسائلت عنها وأكثر من ذلك.

للأسف أغلب قراءاتي المفيدة كانت باللغة الانجليزية، وأشعرني هذا بخوفٍ شديدٍ خاصة بعد انتقالي إلى تركيا، وخفت أن أصبح مثل أولئك العرصات الذين يتحدثون العربي المكسّر، ولكن الحمدلله كانت ذخيرتي التي جمعتها في الصغر مفيدة جدًا لي، خاصة بعد أن بدأت العمل في مجال يجمع بين الكتابة والقراءة والتكنولوجيا في آن معًا، يا سلام!

بالمناسبة، إلى اليوم أتابع مجلات العربي الصغير وماجد وغيرها، ليس فقط للقراءة ولا النوستالجيا، بل أيضًا لتغذية وتخصيب خيالي بمزيد من الأفكار الطفولية التي أعتبرها وسيلتي للصمود والبقاء ورؤية الأشياء بمناظير وزوايا مختلفة.

بآلية مشابها لمبدأ عمل الذكاء الصناعي التوليدي، أمشي اليوم في الشارع وأتخيل أشياء ورسوم وكاليغرافي لن أتمكن من رسمه بنفسي يومًا، أبتكر شخصياتٍ جديدة، وأستذكر شخصيات مما قرأت وسمعت، وأضيف أصواتًا إلى المشهد وربما أحاورها، لم يكن هذا ليحدث لو كان في طفولتي جرعات الدوبامين التيك توكية المكثفة التي تتحول في النهاية إلى اكتئاب (موضوع للتعمق فيه لاحقًا).

لا يمكن لإنسان أن لا يستأنس بالقراءة، أينما كان وكيفما كان. سواءً كان في بحيرة بايكال البعيدة أو في قطار ميترو مزدحمٍ متهالك في مدينة أوروبية معفنة، فحتى بعد سنوات وعقود، مازلت قادرًا على استحضار تلك اللحظات كما لو أنها حدثت قبل قليل.

ربما سأصدر مجلة، أو أكتب كتابًا أو رواية، لكن حاليًا خطرت لي فكرة أهم من ذلك، وهي الدفع نحو دمج القراءة في التقنية بطرق تشوق الناس للقراءة بنفس الطريقة التي كنت أتشوق بها لقراءة المزيد، وانتظار المجلات أسبوع لأسبوع وشهر لشهر.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *