لا يولد طفلٌ وهو يعلم ما هو الخوف.
أعتقد أن كل طفلٍ يولد مزودًا بإحساسين فقط، الجوع، والفضول، وهما ما يدفعانه للقيام بكل شيء وأي شيء، فقد يضع أي شيء يراه أمامه في فمه، وقد يحاول الزحف باتجاه سلمٍ أو شباك لأنه رأى شيئًا عشوائيًا وظن أنه طعام، أو قد يحاول إدخال اصبعه في المنافذ الكهربائية، أو يمد يده ليلمس سطحًا ساخنًا، ويبدأ اللقاء الأول له مع الخوف عند أول كف يأكله على يده لتنهاه عن القيام بهذا الفعل وذاك، ويبدأ من هنا بتخزين المعلومات، ويحاول تجنب الألم الناتج عن الضرب على اليد والطلاسم التي سيسمعها ولن يفهم منها شيئًا من خلال عدم القيام بتلك الأفعال.
ويستمر المخزون المعرفي بالتراكم مع التقدم بالعمر، ويقوم الأهل في البيت، ومن بعدها الحضانة، ومن ثم المدرسة، ومن ثم المحيط المجتمعي والشارع بتغذية هذا الشعور بالداتا وبناء على طريقة معالجة هذه البيانات من قبل الفرد، وما سيواجهه في حياته من ألم، سيتشكل لدى هذا الشخص هوية خوفية خاصة وفريدة.
الخوف هو محاولة تجنب الخطر، وحماية الذات مما نتعلم عنه أنه أذى. إنه Near death experience نحاكي بها وقوع المحظور ونتخيل ما سيحل بنا حال وقوعه، وهو ما يدفعنا للقيام بأي شيء للحيلولة دون وقوع ذلك بالفعل.
“أنا لا أخاف من الموت، أنا أخاف من الخوف نفسه”
أمي
مع أني أتذكر التفاصيل والمواقف والأوقات الجميلة التي قضيتها في الروضة في سنين حياتي الأولى، إلا أنني أذكر أيضًا تخويف المُدرّسة لنا بـ “جب الفار” و بـ “الفليفلة الحمرة” في حال لم نجلس بهدوء. وفي المدرسة الابتدائية التخويف بالعصا الطويلة ذات المقبض الشرططوني الأسود المُسخّنة على الصوبا، والتي ستأكل منها 4 إلى 8 ضربات تتوزع على أيديك الاثنتين في حال لم تكتب واجباتك المدرسية.
في الاعدادية كان الخوف من التأخر على المدرسة، خوفًا من نتف شعر السوالف، والزحف حوالي الباحة مرتين، مع التذكير بأننا “جيل نعنوع” لم نحضر دروس التدريب العسكري التي كانت موجودة على زمان المُوجّه، ولا بأس برفسة من هنا وكف و”طيارة” كل ما أمكن ذلك.
الثانوية والجامعة كان الخوف من الامتناع عن الانضمام إلى “الحزب” و “اتحاد الشبيبة” و “اتحاد الطلبة” كي لا يوصل هذا رسالة مفادها أنك لا تحب النظام، وهذا سيفضي بك إلى بلاد ما وراء الشمس. دخلت إلى الجامعة في الوقت الذي بدأت فيه المظاهرات ضد نظام الأسد بالوصول إلى حلب، ومع أني لم أكن حتى ذلك الوقت قد شاركت في أي مظاهرة داخل الجامعة، إلا أنه تم احتجازي أكثر من مرة على الحواجز والتحقيق معي والتهديد باعتقالي وقتلي بلا سبب، وقد تكون هذه المواقف هي التي غيرت علاقتي مع الخوف. يبدو أنه ليس بالضرورة أن تقوم بالفعل المسبب للخطر، ليقع عليك!
بالتأكيد لم يقم المدنيين الذين وقعت بيوتهم فوق رؤوسهم في سوريا وفي فلسطين من القيام بفعل سيؤدي إلى حصول ذلك. الغالبية كان “يمشي الحيط الحيط ويقول يا رب السترة” ومع ذلك “وصل البلل إلى دقنه”.
إذًا هناك أشياء لن يحمينا الخوف منها بالضرورة، بل ربما سيساهم الخوف في وقوعها أيضًا، واو!
هناكَ خوف يحدث كحادث، أي سيكون من الصعب أن يتكرر دون القيام بذلك عن عمد، مثل أن أغرق في بركة سباحة لأني لا أعرف كيف أسبح. وهناك أيضًا خوف قابل للحدوث مرارًا وتكرارًا مثل ضيفٍ خرائي نكره حلوله، بالنسبة لي هذا الخوف هو عدم العودة إلى الفقر، إلى أيام لم أستطع فيها تأمين رغيف خبر (حرفيًا) لا لنفسي ولا لعائلتي، هذا الخوف الذي حولني الآن (إلى جانب عوامل أخرى) إلى واحد من أمهر العاملين في مجالي، فمع أنه كان مفيدًا، إلا أنه مازال خوفًا، ومن الممكن أن يحدث بطريقة أو بأخرى، ويأتي بكثيرٍ من الفوضى والألم.
ما زال الخوف من أكثر المشاعر والأحاسيس التي تؤثر على حياتنا، وتؤثر في قراراتنا سلبًا وإيجابًا، ومازالت طريقتي المفضلة في تعامل مع الخوف، هي التعامل مع ما سيحدث في حال وقف ما أخاف منه، أو على الأقل الاستعداد للتعامل معه ومواجهته، فبدلًا من الركض أمامه هربًا وهو يحاول أن ينقض علي مثل التنّين، سأواجهه أنا مثل “داي الشجاع” وأصدمه بأني لست خائفًا منه وليخرّيها! وأُصبح أنا من يتحكم به بدل العكس. ولا بأس بقليل من ذلك السم في حياتنا بجرعة غير قاتلة كل حين وآخر، ليشعرنا بقيمة ما نمتلك من أشخاص أو أشياء مادية كانت أم معنوية، ونختبر الحياة بكل ما فيها، فلن نعرف قيمة البرودة إن لم نختبر الحرارة، ولن نعرف قيمة القرش إن لم نختبر الفقر.
سأستمر في التعرف على الخوف والتعمق فيه، على أمل أن تكون علاقتي معه win win وقائمة على الحوار المتبادل، ويساعدني ذلك على معرفة نفسي وما أريد so help me god.