وُلدت في مدينة الموسيقى، مدينةٌ يتعلمُ فيها الطفل المقامات قبل تعلم القراءة والكتابة. مدينةٌ فيها المؤذنُ مطربٌ، وفيها الشحّادُ مطربٌ، والبائع المُتجولُ مطربٌ، ويمكن لأي شرارة صوتية أن تدفع سائق الباص للتوقف على اليمين والنزول ليرقص مع الراقصين (حدث بالفعل) ولهذا السبب لا داعي لأن أكون من “عائلة فنية” ليكون لدي هذا الاهتمام.
أُضيف إلى ذلك حب أبي وأمي للموسيقى رغم اختلاف التفاصيل والقصص والتوجهات، فوالدي كان يدخلُ البيت يوميًا وهو يُغني مقتطفات لصباح فخري أو شادي جميل أو صابر الرباعي، مع تحريف كلمات الأغاني لتطابق أسماء أبنائه، ووالدتي كانت لا تقوم بأي فعل (حرفيًا) دون صوت سميرة سعيد يصدح في الخلفية.
في الصباح نستيقظ على صوت فيروز من الراديو مباشرة بعد آيات من القرآن بدأت بها المحطة بثها، ويستمر الصوت دون انقطاع أثناء مشيي في الشارع في الطريق إلى المدرسة، أو إلى الفُرن لإحضار الخبز، ومن ثم التوجه لإحضار مشروب السحلب، أو صحن الفول بطحينة، هنا كل شيء يعملُ بالموسيقى.
في المساء، كانت والدتي تتابع برنامج “آخر المشوار” على القناة الثانية الأرضية، والذي كان يبث أغاني عربية مختلفة، وموسيقى وأغاني أجنبية هادئة تناسب الجو المسائي لنهاية اليوم، وكنا نستمتع سويًا بهذه الفقرة قبل أن ينقطع البث التلفزيوني الذي كان ينتهي قبل منتصف الليل.
وبعد أن صار في بيتنا “دِش” يجلب قنوات عربية في مقدمتها MBC التي كانت تبث يوميًا فقرة أحدث الأغاني بين الساعة 10 و 11 صباحًا، و قناة المستقبل التي كانت تتحفنا بالأصوات اللبنانية، تعرفت على أصوات وأنماط موسيقية جديدة، وفي المرحلة الإعدادية، عندما بدأت أتسائل “من أنا” وما هي هويتي وانتمائاتي، وأردت أن أكون مختلفًا، اكتشفت أن لفيروز ابنٌ موسيقي اسمه زياد، واكتشفت أنه قام بتأليف الكثير من المقطوعات والأغاني لفيروز، وصادف أنها هي كانت ما يعجبني دون غيرها، وحينها قررت الاستماع إلى كل ما أنتج هذا الشخص، وأكثر من ذلك، أردت أن أصبح شيوعيًا بعد أن اقتنعت بالأفكار التي قدمها زياد بطريقته، وأصبح هذا الرحباني هو صوت مراهقتي وبداية شبابي، وحزنت كثيرًا لأني لم أتمكن من حضور الحفل الذي أقامه في قلعة دمشق في 2006.
هدوء نسبي لزياد الرحباني، هذا الألبوم بالكامل كان رفيق دراستي في المرحلة الإعدادية وحتى إتمام الثانوية ودخول الجامعة، 45 دقيقة تبدأ من رائعة “بلا ولا شي” وتنتهي بـ”خَلَص” بصوت سلمى مصفي. كان هذا الألبوم هو نظام البومودورو الخاص بي (بالتأكيد لم أكن أعلم عن هذا النظام في ذلك الوقت) ولكن كنت أبدأ الحصة الدراسية في الصباح الباكر ببداية الألبوم، وآخذ استراحة عندما ينتهي، لمدة 15 دقيقة، ومن ثم أعيد تشغيله مجددًا لمرة واحدة فقط (لا أدرس أكثر من ساعتين يوميًا)
معزوفة “ميس الريم” و “أبو علي” ومسرحية “بالنسبة لبكرا شو” كانوا أيضًا رفاق “فايب الدراسة”.
مشحونًا بالأفكار الثورية اليسارية الزيادية، وبكثير من القرف والمشاكل التي تعرضت لها بداية خروجي إلى العالم في تلك المنطقة اللعينة المسماة سوريا، ومع متابعة ثورة البوعزيزي في تونس، ومن بعدها الثورة المصرية، وبدأ نشر الدعوات للخروج في مظاهرات ضد نظام الأسد المجرم وبداية خروج ما يحدث في أقبية سجون سوريا إلى شوارعها، كان صوت بيانو مالك جندلي في “سمفونية القاشوش” و مقطوعة “حمص” لا يتوقفان عن الدوران في رأسي.
في وقت حاول فيه نظام الأسد تشويه الذوق العام بقمامة مثل علي الديك و أمثاله تحت مسمى الأغاني الشعبية، كان مالك جندلي مهربي من هذا التلوث إلى الموسيقى النظيفة، الموسيقى التي أسمعها تكلمني، تصف مشاعري التي لا أجيد التعبير عنها كلاميًا عن سوريا، وعن أمي، وعن حياتي، وكانت أمي تُأكد علي في كل مرة أغادر فيها المنزل أن أكون “نظفت هاتفي” من هكذا أشياء قد تودي بي وراء الشمس، إلا أن جوابي كان في كل مرة “على أساس لو شبيح شاف هالحكي راح يعرف ايش يعني”، وكنت أسمعه لأشحن نفسي بشجاعة لم أكن أمتلكها قبل الذهاب إلى مظاهرة وتجربة شعور البرزخ والقلق من وصول الشبيحة قبل أن نفرط المظاهرة المسائية.
2014 نحن الآن نازحين، وأنا بدون عمل، وبدون جامعة، وبدون أمل، وفي أسوأ أيام حياتي التي قد تنتهي في أي لحظة ربما بتوقيفة على حاجز ، أو باعتقال عشوائي، أو قصف لا فكرة لديه عمن يقتل.
لم تكن لتفرق معي كثيرًا في ذلك الوقت، فلا فرق كبير بين الحياة والموت في هذه الظروف، كل ما كنا نتمناه إن متنا أن يكون موتنا سريعًا فوريًا لا نُحس به، فلدينا هنا خيارات أسوأ من الموت بكثير، فمن يتم سوقه إلى “بيت خالته” يتمنى الموت يوميًا ألف مرة، على العذاب الذي يلاقيه في المعتقل.
لا مستقبل هنا، يجب أن أغادر، ربما إلى الأردن، أو إلى أي مكان آخر أتمكن فيه من عمل أي شيء لأعيل والدتي التي انتهت كل المصادر التي يمكن أن تقترض منها المال، ولم تعد لديها القدرة على فتح “جمعيات” جديدة.
غادرت، في رحلة سوريالية حقيقية استمرت ليومين، ومررت على كافة أشكال الحواجز والجيوش، ودفعت الكثير من الرشاوى دون سبب فقط كي يسمحوا لي بالمغادرة، وفي ذلك الوقت لم يكن يصدح في رأسي سوى الإعلان التشويقي الذي ظهر لي صدفة لموسيقي لبناني اسمه ابراهيم معلوف، بصوت آلة “ماريميا” لطيف وإيجابي يحاول أن يرسم قليلًا من الألوان على هذا العالم الأسود، وكنت متشوقًا لسماع هذه المقطوعة بالكامل، والتي كانت ستصدر بعد يومين، أي في ذات الوقت الذي كنت سأصل به إلى “بلاد ما وراء الباص”.
الوجهة القادمة، تركيا، لم أكن أرغب أن آتي إليها، فقد علمت أن كل من أتى إليها بدأ يعمل بالعتالة أو الخياطة، فكان الانطباع الأول عن المكان أنه كئيب وأزرق، ولكن لم يبقى لدي حلول أخرى، فغادرت من حلب “المحررة” التي كنا نسميها “بلاد ما وراء الباص” إلى الحدود، مع هاتف أرسله معي ياسر لأسلمه لأخو زوجته الذي يعمل هناك بالخياطة أيضًا، فاستغليت أنه كان هاتفًا ذكيًا، وقمت بتحميل الألبوم الجديد الذي صدر للتو لإبراهيم معلوف، والذي كان عنوانه au pays d’alice أي “في بلاد أليس” والذي تضمن المعزوفة التي كانت تلعب في رأسي كل هذه المدة والتي تبين لي أن اسمها هو Tomber Longtemps أي السقوط الكبير (سبحان الله).
ستستغرق رحلتي من غازي عنتاب إلى اسطنبول 18 ساعة، ما عندي فيها سوى هذا الألبوم للاستماع إليه طوال الطريق، فكان موسيقى خلفية تمشي بي مع ما أشاهده من طبيعة مذهلة من خضار وطبيعة وشوارع مستوية، ومن ثم كانت المفاجئة الكبرى هي وجود البحر، وفي هذه الرحلة، حفظت كل كلمات الالبوم وأغانيه وعدت لاحقًا لترجمتها بمساعدة صديقي مُدرس اللغة الفرنسية.
لا أعلم كيف كنت سأنجو من هكذا المواقف وأنا بحالة عقلية لن أقول أنها سليمة، ولكن على الأقل فيها حد أدنى من التوازن دون الموسيقى. لم يكن لدي أي وسيلة تعبير أو تنفيس أخرى، ولا أصوات أخرى من حولي غيرها سوى صوت الموت الذي كنت أكرهه، وكنت ومازلت أريد تحقيق كل ما أحلم به وأطمح إليه منذ صغري، وسأحاربه بما استطيع لأستمر في ذلك، وحتى الآن، ليس لدي سلاح آخر في وجه الأفكار السمية سوى التفريغ كما أفعل الآن، وطبعًا الموسيقى.